صالحة غابش في (( الآن عرفت ))

عبد الرحمن مجيد الربيعي

من المؤسف أنّ أدباء العربية لا يعرفون بعضهم جيداً عدا الأسماء الطافية على السطح. لكنني اكتشف بين فترة وأخرى أدباء حقيقيين يظل نتاجهم مجهولاً، ووصوله إلينا يأتي عن طريق صدفة ما.‏

هذه الصدفة هي التي جعلتني أستل ديوان الشاعرة الإماراتية صالحة غابش من بين الكتب المعروضة في أحد أجنحة دور النشر. بمعرض تونس الأخير للكتاب.‏

لقد عرفت اسم هذه الشاعرة من خلال موقعها في نوادي الفتيات بإمارة الشارقة. لكنني في الآن نفسه لم أكن أعرف أنها شاعرة حتى قادني اسمها بفضول ما إلى ديوانها "الآن عرفت".‏

وفي التعريف بها وجدت أن هذا الديوان ليس باكورتها بل إنَّ لها ديوانين قبله هما: "بانتظار الشمس" و "المرايا ليست هي".‏

وانطلاقاً من دعوتي التي أؤكدها في البحث عن النص "المغيَّب" لا "المكرَّس" إذ بين النصوص المغّيبة ما هو جدير بالانتشار والاهتمام على العكس من المكرسة التي تلاك دون مراجعة أو تساؤل اهتمت بهذا الديوان.‏

صحيح أن أديبات الخليج العربي يلجن عالم الكتابة بتردد وخفر إلا أن أمامهن موروثاً إبداعياً يعتمدنه سواء في أدب بلدانهن أو الأدب العربي، أما مهن أيضاً الإبداع الأدبي الإنساني كله لا سيما وأن بلدان الخليج العربي قد انفتحت على محيطها العربي، ندوات ومعارض كتب ومسابقات وجوائز وكذلك فضائيات لا تنغلق على محليتها لذا تصدرت غيرها من الفضائيات.‏

وكانت لي قبل صالحة غابش مفاجأة إماراتية أخرى قبل سنوات ممثلة بإبداع كاتبة قصة قصيرة متميزة هي سلمى مطر سيف مثلاً.‏

-2-‏

في لحظة ما وجدت ديوان صالحة غابش "الآن عرفت" بين يديّ، بدأت بقراءة التعريف الدقيق عنها وعن عالمها ومن المؤسف أنه خال من التوقيع.‏

ربما ظننت في البداية أن هناك شيئاً من المبالغة لكنني عندما بدأت بقراءة قصائده استيقظت من "شبه الغفوة" التي كنت عليها. وأحسست أنني أمام شاعرة حقيقية، صحيح أنني لا أعرف لأي جيل تنتمي؟ ومتى بدأت الكتابة؟ ثم متى أقدمت على نشر ما كتبت فبعض المبدعات لا يتسرعن النشر ولا يعتبرنه هدفاً. فهنا محرقة نقيضاتهن من المتسرعات بل نجدهنّ يتأنين كثيراً، يترددن، يتساءلن، ليولدن كبيرات، لا تسكن نصوصهن سنوات صفحات القراء في الجرائد السيّارة.‏

نعم، إن ديوان "الآن عرفت" جعلني أتوقف عند تجربة شاعرة جديرة بأن تنال اهتمام الدارسين والقراء وأن تساهم في الملتقيات خارج وطنها لتقدم صورة ناصعة عن إبداع المرأة وأن تساهم في كسر "احتكار" بضعة أسماء لهذه المهرجانات، يدرن من مهرجان إلى آخر مثل جوقة إحياء الحافلات.‏

(أذكر هنا سعادتي باكتشاف الشاعرة السودانية روضة الحاج مثلاً والتي سبق أن عرّفت بها في إحدى الصحف العربية الصادرة من لندن).‏

-3-‏

إن أول ما يلفت الانتباه في شعر صالحة غابش لغتها، هي لغة جديدة، تحاول أن توجد قاموسها وتراكيبها، محققة صوراً غير مكرورة فيها من التفرد ما هو مطلوب من أي شاعر حداثي ليكون "هو" لا نسخة من شاعر آخر.‏

على الرغم من أنّ شاعرتنا هي ابنة مرحلة معينة من تاريخ الأدب العربي، بل ومن التاريخ السياسي العربي الذي ارتبك إلى حد كبير في السنوات العشرين الأخيرة من القرن المنصرم، وكل ما يحدث سيجد طريقه إلى إبداعنا وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.‏

وإنها حالة الحزن والإحباط والانكسار الطاغي على الأرض العربية كلها.‏

فلا الفرحة تأخذ مداها ولا العشق مداه، ولا الأمل -إن وجد- مداه.‏

نحن نطرق الباب المغلق الذي أصاب الصدأ مساميره فأصبح فتحه شبه مستحيل إلا باقتلاعه كاملاً.‏

تقول من قصيدة "فضائي والأجنحة":‏

(الحزن قبيلة نارٍ‏

تحرق كل وثائقها في قلب فتاة‏

تنمو فوق رمال براءتها‏

وحديث يسرق ذاته‏

ثم يغادر ثكنته المطمورة في استرخاء لا يهدأ).‏

إن وصف الحزن بـ "قبيلة نار" وليس قبيلة من نار مثلاً قد رفع التشبيه إلى معنى أوسع ودلالة أدق. وكذلك الوصف الآخر "ثكنته المطمورة" ولكن "في استرخاء" وبعد ذلك "لا يهدأ".‏

إن الاسترخاء، الذي يطمر الثكنة صورة جديدة، فيها ابتكار متفردة مع أنني وجدت "لا يهدأ" زائدة إلى حد ما وضمن السياق وما دام الاسترخاء قرين الهدوء.‏

وتقول من القصيدة نفسها:‏

(يا أنت الماثل في سهو الطرقات‏

هل تدري كيف يفتّتني‏

هذا الوهم المتآمر ضد براءتي الأولى؟)‏

نرى التركيب (يا أنت الماثل) رائعاً، ولو أنها وضعت (أيها) لوقع الوصف في الاعتيادي عندما يكون: (يا أنت أيها الماثل).‏

وكذا تألق وصفها في (الوهم المتآمر).‏

جميل أن نصف (الوهم) بـ (التآمر) إذ إنه قد يسرق منا أشياء كثيرة ويمنحنا أجنحة من شمع.‏

وبإمكاني أن أتابع هذه الدقة المقصودة والتي اشتغلت عليها الشاعرة بعناية ووعي مثل مطلع قصيدتها "تتويج":‏

(لن أبعث جلدي نحو الشمس‏

لتنضجه‏

لن أبعثه نحو الأقمار‏

تهيل عليه الفضة من سلّتها‏

فأنا في الشرق متوجة‏

وبلاطي صوت امرأة تمشي في إثر نبيّ)‏

وتستكمل هذه القصيدة المكثفة المليئة بالاعتداد التاريخي:‏

(يتبع ظل رسائلها‏

في صحراء انفلتت من قافلة البرد‏

حيث النار‏

وحيث البعد يراقبها من فوق جبل‏

كانت تمشي في ظل رسالته).‏

هناك أكثر من وصف ثري في هذه القصيدة القصيرة. (لن أبعث جلدي نحو الشمس)، أو (بلاطي صوت امرأة تمشي في إثر نبيّ) أو (في صحراء انفلتتْ من قافلة البرد)... الخ.‏

كل قصيدة في الديوان وليدة اشتغال طويل ودؤوب، هكذا أحسست، وهكذا يجب أن تكون الكتابة الباقية، وأتمنى أن يأتي دارس آخر ليتوقف أكثر عند هذا الديوان وما يحمل من جديد وتفرّد بين ركام يسمى "جوراً" شعراً وبينه وبين الشعر مسافات حتى لو أفلحت شاعرته أو أفلح شاعره في وزنه وقافيته ولكنه سيقع في عاديته وهرائيّته.‏

هذا مثال أخير هو نص قصيدة كاملة عنوانها "مرآة":‏

(تستغرقني الغيمة البيضاء‏

حتى تمتلئ بي‏

فتهطلني على تلة صغيرة‏

أنحت تضاريسها بي‏

أترك في رأسها شجرة بحجمي‏

أستلقي في ظلها لأتأمل غيمتي الآخذة‏

في تمشيط بياضها‏

أمام الأفق).‏

أترك القصيدة لتقول بنفسها ما حققته من ضوء لغوي وضوح دلاليّ أمام قارئها لأقول بأننا أمام شاعرة تستأهل الاهتمام بل والانتشار لا سيما وأن لها في رصيدها ثلاثة أعمال منشورة. وكثير من شاعرات "الموائد" و "المهرجانات" ليس لهن مثل هذا الرصيد الجميل.‏

‏

(*) صدر الديوان من منشورات الدار المصرية اللبنانية 1998 وربما تكون الشاعرة قد أصدرت أعمالاً أخرى بعده.